فصل: توحيد الأسماء والصفات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


مقدمة الشارح

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشده أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً‏.‏

أما بعد‏:‏ فقد من الله تعالى علينا بشرح ‏"‏العقيدة الواسطية‏"‏ التي ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدة أهل السنة والجماعة تقريراً على الطلبة الذين درسوها علينا في المسجد، ومن أجل حرصهم على حفظ التقرير، قاموا بتسجيله ثم تفريغه كتابة من أشرطة التسجيل‏.‏

ومن المعلوم أن الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب بالتحرير، لأن الأول يعتريه من النقص والزيادة ما لا يعتري الثاني‏.‏

وقد تقدمت عدة مكاتب نشر بطلب طباعته‏.‏

ولكن، لما كان الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب بالتحرير، لذا رأيت من المهم أن أقرأ الشرح بتمثل من أجل إخراج الشرح على الوجه المرضي، ففعلت ذلك ولله الحمد وحذفت مالا يحتاج إليه، وزدت ما يحتاج إليه‏.‏

وأسأل الله تعالى أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره، إنه قريب مجيب‏.‏

المؤلف

محمد بن صالح العثيمين

27/3/1415هـ

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين‏.‏

أما بعد‏:‏

فإنه هذا الكتاب الذي يسمى ‏"‏العقيدة الواسطية‏"‏ ألفه حبر الأمة في زمانه‏:‏ أبو العباس، شيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، رحمه الله، المتوفى سنة 728هـ‏.‏

ولهذا الرجل من المقامات ـ التي يشكر عليها والتي نرجو من الله له المثوبة عليها ـ في الدفاع عن الحق ومهاجمة أهل الباطل ما يعلمه كل من تتبع كتبه وسبرها، والحقيقة أنه من نعم الله على هذه الأمة، لأن الله سبحانه وتعالى كف به أموراً عظيمة خطيرة على العقيدة الإسلامية‏.‏

وهذا الكتاب كتاب مختصر، يسمى ‏"‏ العقيدة الواسطية ‏"‏ ، ألفه شيخ الإسلام، لأنه حضر إليه رجل من قضاة واسط، شكا إليه ما كان الناس يعانونه من المذاهب المنحرفة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، فكتب هذه العقيدة التي تعد زبدة لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالأمور التي خاض الناس فيها بالبدع وكثر فيها الكلام والقيل والقال‏.‏

وقبل أن نبدأ الكلام على هذه الرسالة العظيمة نحب أن نبين أن جميع رسالات الرسل، من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام، إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، كلها تدعو إلى التوحيد‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وذلك أن الخلق خلقوا لواحد وهو الله عز وجل، خلقوا لعبادته، لتتعلق قلوبهم به تألهاً وتعظيماً، وخوفاً ورجاء وتوكلاً ورغبة ورهبة، حتى ينسلخوا عن كل شيء من الدنيا لا يكون معيناً لهم على توحيد الله عز وجل في هذه الأمور، لأنك أنت مخلوق، لابد أن تكون لخالقك، قلباً وقالباً في كل شيء‏.‏

ولهذا كانت دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى هذا الأمر الهام العظيم، عبادة الله وحده لا شريك له‏.‏

ولم يكن الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى البشر يدعون إلى توحيد الربوبية كدعوتهم إلى توحيد الألوهية، ذلك أن منكري توحيد الربوبية قليلون جداً وحتى الذين ينكرونه هم في قرارة نفوسهم لا يستطيعون أن ينكروه، اللهم إلا أن يكونوا قد سلبوا العقول المدركة أدنى إدراك، فإنهم قد ينكرون هذا من باب المكابرة‏.‏

وقد قسم العلماء رحمهم الله التوحيد إلى ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ توحيد الربوبية

وهو ‏"‏إفراد الله سبحانه وتعالى في أمور ثلاثة، في الخلق والملك والتدبير‏"‏‏.‏

دليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏ ‏[‏الأعراف، 54‏]‏ ووجه الدلالة من الآية‏:‏ أنه قدم فيها الخبر الذي من حقه التأخير، والقاعدة البلاغية‏:‏ أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر‏.‏ ثم تأمل افتتاح هذه الآية بـ ‏(‏ألا‏)‏ الدالة على التنبيه والتوكيد‏:‏ ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏، لا لغيره، فالخلق هذا هو، والأمر هو التدبير‏.‏

أما الملك، فدليلة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ملك السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 27‏]‏، فإن هذا يدل على انفراده سبحانه وتعالى بالملك، ووجه الدلالة من هذه الآية كما سبق تقديم ما حقه التأخير‏.‏

إذاً، فالرب عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف تجمع بين ما قررت وبين إثبات الخلق لغير الله، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتبارك الله أحسن الخالقين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في المصورين‏:‏ ‏)‏يقال لهم أحيوا ما خلقتم ‏)(1) تعالى في الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي‏)‏ (2) ، فكيف تجمع بين قولك‏:‏ أن الله منفرد بالخلق، وبين هذه النصوص‏؟‏‏.‏

فالجواب أن يقال‏:‏ إن الخلق هو الإيجاد، وهذا خاص بالله تعالى، أما تحويل الشيء من صورة إلى أخرى، فإنه ليس بخلق حقيقة، وإن سمي خلقاً باعتبار التكوين، لكنه في الواقع ليس بخلق تام، فمثلا‏:‏ هذا النجار صنع من الخشب باباً، فيقال‏:‏ خلق باباً لكن مادة هذه الصناعة الذي خلقها هو الله عز وجل، لا يستطيع الناس كلهم مهما بلغوا في القدرة أن يخلقوا عود أراك أبداً، ولا أن يخلقوا ذرة ولا أن يخلقوا ذباباً‏.‏

واستمع إلى قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏‏.‏

‏"‏الذين‏"‏‏:‏ اسم موصول يشمل كل ما يدعى من دون الله من شجر وحجر وبشر وملك وغيره، كل الذين يدعون من دون الله ‏{‏لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏، ولو انفرد كل واحد بذلك، لكان عجزه من باب أولى، ‏{‏وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏، حتى الذين يدعون من دون الله لو سلبهم الذباب شيئاً، ما استطاعوا أن يستنقذوه من هذا الذباب الضعيف، ولو وقع الذباب على أقوى ملك في الأرض، ومض من طيبه، لا يستطيع هذا الملك أن يستخرج الطيب من هذا الذباب، وكذلك لو وقع على طعامه، فإذاً الله عز وجل هو الخالق وحده‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف تجمع بين قولك‏:‏ إن الله منفرد بالملك وبين إثبات الملك للمخلوقين، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ما ملكتم مفاتحه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ ‏{‏إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 61‏]‏‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن الجمع بينهما من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن ملك الإنسان للشيء ليس عاماً شاملاً، لأنني أملك ما تحت يدي، ولا أملك ما تحت يدك والملك ملك الله عز وجل، فمن حيث الشمول‏:‏ ملك الله عز وجل أشمل وأوسع، وهو ملك تام‏.‏

الثاني‏:‏ أن ملكي لهذا الشيء ليس ملكاً حقيقياً أتصرف فيه كما أشاء، وإنما أتصرف فيه كما أمر الشرع، وكما أذن المالك الحقيقي، وهو الله عز وجل، ولو بعت درهماً بدرهمين، لم أملك ذلك، ولا يحل لي ذلك، فإذا ملكي قاصر وأيضاً لا أملك فيه شيئاً من الناحية القدرية، لأن التصرف لله، فلا أستطيع أن أقول لعبدي المريض‏:‏ ابرأ فيبرأ، ولا أستطيع أن أقول لعبدي الصحيح الشحيح‏:‏ امرض فيمرض، لكن التصرف الحقيقي لله عز وجل، فلو قال له‏:‏ ابرأ، برأ، ولو قال‏:‏ امرض‏.‏ مرض، فإذا لا أملك التصرف المطلق شرعاً وقدراً، فملكي هنا قاصر من حيث التصرف، وقاصر من حيث الشمول والعموم، وبذلك يتبين لنا كيف كان انفراد الله عز وجل بالملك‏.‏

وأما التدبير، فللإنسان تدبير، ولكن نقول‏:‏ هذا التدبير قاصر، كالوجهين السابقين في الملك، ليس كل شيء أملك تدبيره إلا على وفق الشرع الذي أباح لي هذا التدبير‏.‏

وحينئذ يتبين أن قولنا‏:‏ ‏"‏إن الله عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير‏"‏‏:‏ كلية عامة مطلقة، لا يستثنى منها شيء، لأن كل ما أوردناه لا يعارض ما ثبت لله عز وجل من ذلك‏.‏

القسم الثاني‏:‏ توحيد الألوهية

وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة، بألا تكون عبداً لغير الله، لا تعبد ملكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا شيخاً ولا أماً ولا أباً، لا تعبد إلا الله وحده، فتفرد الله عز وجل وحده بالتأله والتعبد، ولهذا يسمى‏:‏ توحيد الألوهية، ويسمى‏:‏ توحيد العبادة، فباعتبار إضافته إلى الله هو توحيد ألوهية، وباعتبار إضافته إلى العابد هو توحيد عبادة‏.‏

والعبادة مبنية على أمرين عظيمين، هما المحبة والتعظيم، الناتج عنهما‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا يسارعون في الخبيرات ويدعوننا رغبا ورهبا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 90‏]‏، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة والخوف‏.‏

ولهذا كانت العبادة أوامر ونواهي‏:‏ أوامر مبنية على الرغبة وطلب الوصول إلى الآمر، ونواهي مبنية على التعظيم والرهبة من هذا العظيم‏.‏

فإذا أحببت الله عز وجل، رغب فيما عنده ورغب في الوصول إليه، وطلبت الطريق الموصل إليه، وقمت بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظمته خفت منه، كلما هممت بمعصية، استشعرت عظمة الخالق عز وجل، فنفرت، ‏{‏ولقد عمت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، فهذه من نعمة الله عليك، إذا هممت بمعصية، وجدت الله أمامك، فهبت وخفت وتباعدت عن المعصية، لأنك تعبد الله رغبة ورهبة‏.‏

فما معنى العبادة‏؟‏

العبادة‏:‏ تطلق على أمرين، على الفعل والمفعول‏.‏

تطل على الفعل الذي هو التعبد، فيقال‏:‏ عبد الرجل ربه عبادة وتعبداً وإطلاقها على التعبد من باب إطلاق اسم المصدر، ونعرفها باعتبار إطلاقها على الفعل بأنها‏:‏ ‏"‏التذلل لله عز وجل حباً وتعظيماً، بفعل أوامره واجتناب نواهيه‏"‏‏.‏ وكل من ذل لله عز بالله، ‏{‏ولله العزة ولرسوله‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وتطلق على المفعول، أي‏:‏ المتعبد به وهي بهذا المعنى تعرف بما عرفها به شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال رحمه الله‏:‏ ‏"‏العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة‏"‏ (3).‏

هذا الشيء الذي تعبدنا الله به يجب توحيد الله به، لا يصرف لغيره، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والدعاء والنذر والخشية والتوكل‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك من العبادات‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما هو الدليل على أن الله منفرد بالألوهية‏؟‏

فالجواب‏:‏ هناك أدلة كثيرة، منها‏:‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وأيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ٍ، لو لم يكن من فضل العلم إلا هذه المنقبة، حيث إن الله ما أخبر أن أحداً شهد بألوهيته إلا أولو العلم، نسأل الله أن يجعلنا منهم‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط‏}‏، بالعدل، ثم قرر هذه الشهادة بقوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏، فهذا دليل واضح على أنه لا إله إلا الله عز وجل، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنتم تشهدون أن لا إله إلا الله‏.‏ هذه الشهادة الحق‏.‏

إذا قال قائل‏:‏ كيف تقرونها مع أن الله تعالى يثبت ألوهية غيره، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تدع مع الله إلهاً آخر‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{‏ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{‏فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء‏(‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، ومثل قول إبراهيم‏:‏ ‏{‏أئفكاً آلهة دون الله تريدون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 86‏]‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك من الآيات، كيف تجمع بين هذا وبين الشهادة بأن لا إله إلا الله‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن ألوهية ما سوى الله ألوهية باطلة، مجرد تسمية، ‏{‏إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏، فألوهيتها باطلة، وهي وإن عبدت وتأله إليها من ضل، فإنها ليست أهلا لأن تعبد، فهي آلهة معبودة، لكنها آلهة باطلة، ‏{‏ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وهذا النوعان من أنواع التوحيد لا يجحدهما ولا ينكرهما أحد من أهل القبلة المنتسبين إلى الإسلام، لأن الله تعالى موحد بالربوبية والألوهية، لكن حصل فيما بعد أن من الناس من ادعى ألوهية أحد من البشر، كغلاة الرافضة مثلاً، الذين يقولون‏:‏ إن علياً إليه، كما صنع زعيمهم عبدالله بن سبأ، حيث جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له‏:‏ أنت الله حقاً‍ لكن عبدالله بن سبأ أصله يهودي دخل في دين الإسلام بدعوى التشيع لآل البيت، ليفسد على أهل الإسلام دينهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال‏:‏ ‏"‏إن هذا صنع كما صنع بولص حين دخل في دين النصارى ليفسد دين النصارى‏"‏ (4) ‏.‏ هذا الرجل عبدالله بن سبأ قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أنت الله حقاً وعلي ابن أبي طالب لا يرضى أن أحداً ينزله فوق منزلته هو حتى إنه رضي الله عنه من إنصافه وعدله وعلمه وخبرته كان يقول منزلته هو حتى إنه رضي الله عنه من إنصافه وعدله وعلمه وخبرته كان يقول على منبر الكوفة‏:‏ ‏"‏خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر‏"‏ (5)

والحديث أصله في ‏"‏صحيح البخاري‏"‏ ‏(‏3671‏)‏ عن محمد بن الحنفية قال‏:‏ قلت لأبي‏:‏ أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قال أبو بكر‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ثم عمر‏.‏‏]‏ ، يعلن ذلك في الخطبة، وقد تواتر النقل عنه بذلك رضي الله عنه، والذي يقول هكذا ويقر بالفضل لأهله من البشر كيف يرضي أن يقول له قائل‏:‏ إنك أنت الله‏؟‏‍ ولهذا عزرهم أبشع تعزير، أمر بالأخاديد فخدت، ثم ملئت حطباً وأوقدت، ثم أتى بهؤلاء فقذفهم في النار وأحرقهم بها، لأن فريتهم عظيمة ـ والعياذ بالله ـ وليست هينة، ويقال‏:‏ إن عبدالله بن سبأ هرب ولم يمسكوه المهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحر السبئية بالنار، لأنهم ادعوا فيه الألوهية‏.‏

فنقول‏:‏ كل من كان من أهل القبلة لا ينكرون هذين النوعين من التوحيد‏:‏ وهما‏:‏ توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وإن كان يوجد في بعض أهل البدع من يؤله أحداً من البشر‏.‏

لكن الذي كثر فيه النزاع بين أهل القبلة هو‏:‏

القسم الثالث وهو توحيد الأسماء والصفات

هذا هو الذي كثر فيه الخوض، فانقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام، وهم‏:‏ ممثل، ومعطل، ومعتدل، والمعطل‏:‏ إما مكذب أو محرف ‏.‏

وأول بدعة حدث في هذه الأمة هي بدعة الخوارج ؛ لأن زعيمهم خرج على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذو الخويصرة من بني تميم، حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم ذهبية جاءت فقسمها بين الناس، فقال له هذا الرجل‏:‏ يا محمد‍ اعدل (6) فكان هذا أول خروج خرج به على الشريعة الإسلامية، ثم عظمت فتنتهم في أواخر خلافة عثمان وفي الفتنة بين علي ومعاوية، فكفروا المسلمين واستحلوا دماءهم‏.‏

ثم حدثت بدعة القدرية مجوسي هذه الأمة الذين قالوا‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى لم يقدر أفعال العباد وليست داخلة تحت مشيئته وليست مخلوقة له، بل كان زعماؤهم وغلاتهم يقولون‏:‏ إنها غير معلومة لله، ولا مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن الله لا يعلم بما يصنع الناس، إلا إذا وقع ذلك ويقولون‏:‏ إن الأمر أنف، أي‏:‏ مستأنف وهؤلاء أدركوا آخر عصر الصحابة، فقد أدركوا زمن عبدالله بن عمر رضي الله عنه وعبادة بن الصامت وجماعة من الصحابة، لكنه في أواخر عصر الصحابة‏.‏

ثم حدثت بدعة الإرجاء وأدركت زمن كثير من التابعين، والمرجئة هم الذين يقولون‏:‏ إنه لا تضر المعصية مع الإيمان تزني وتسرق وتشرب الخمر، وتقتل ما دمت مؤمنا، فأنت مؤمن كامل الإيمان وإن فعلت كل معصية‍‏.‏

لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ إن كلام القدرية والمرجئة حين رده بقايا الصحابة كان في الطاعة والمعصية والمؤمن والفاسق، لم يتكلموا في ربهم وصفاته‏.‏

فجاء قوم من الأذكياء ممن يدعون أن العقل مقدم على الوحي، فقالوا قولا بين القولين ـ قول المرجئة وقول الخوارج ـ قالوا‏:‏ الذي يفعل الكبيرة ليس بمؤمن كما قاله المرجئة، وليس بكافر كما قاله الخوارج، بل هو في منزلة بين منزلتين، كرجل سافر من مدينة إلى أخرى فصار في أثناء الطريق، فلا هو في مدينته ولا في التي ساف إليها، بل في منزلة بين منزلتين، هذا في أحكام الدنيا، أما في الآخرة، فهو مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في الآخرة، لكن في الدنيا يخالفونهم‏.‏

ظهرت هذه البدعة وانتشرت، ثم حدثت بدعة الظلمة والجهمة، وهي بدعة جهم بن صفوان وأتباعه، ويسمون الجهمية، حدثت هذه البدعة، وهي لا تتعلق بمسألة الأسماء، والأحكام، مؤمن أم كافر أم فاسق، ولم في منزلة بين منزلتين، بل تتعلق بذات الخالق‏.‏ انظر كيف تدرجت البدع في صدر الإسلام، حتى وصلوا إلى الخالق جل وعلا، وجعلوا الخالق بمنزلة المخلوق، يقولون كما شاؤوا، فيقولون‏:‏ هذا ثابت لله، وهذا غير ثابت، هذا يقبل العقل أن يتصف الله به، وهذا لا يقبل العقل أن يتصف به، فحدثت بدعة الجهمية والمعتزلة، فانقسموا في أسماء الله وصفاته إلى أقسام متعددة‏:‏

1- قسم قالوا‏:‏ لا يجوز أبداً أن نصف الله لا بوجود ولا بعدم، لأنه إن وصف بالوجود، أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم، أشبه المعدومات، وعليه يجب نفي الوجود والعدم عنه، وما ذهبوا إليه، فهو تشبيه للخالق بالممتنعات والمستحيلات، لأن تقابل العدم والوجود تقابل نقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فانظر كيف فروا من شيء فوقعوا في اشر منه‏.‏

2- وقسم آخر قالوا‏:‏ نصفه بالنفي ولا نصفه بالإثبات، يعني‏:‏ أنهم يجوزون أن تسلب عن الله سبحانه وتعالى الصفات لكن لا تثبت، يعني‏:‏ لا نقول‏:‏ هو حي، وإنما نقولك ليس بمبيت ولا نقولك عليم، بل نقول‏:‏ ليس بجاهل‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏ قالوا‏:‏ لو أثبت له شيئاً شبهته بالموجودات، لأنه على زعمهم كل الأشياء الموجودة متشابهة، فأنت لا تثبت له شيئاً، وأما النفي، فهو عدم، مع أن الموجود في الكتاب والسنة في صفات الله من الإثبات أكثر من النفي بكثير‏.‏

قيل لهم‏:‏ إن الله قال عن نفسه‏:‏ ‏(‏سميع بصير‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ هذا من باب الإضافات، بمعنى‏:‏ نسب إليه السمع لا لأنه متصف به، ولكن لأن له مخلوقا يسمع، فهو من باب الإضافات، فـ‏(‏سميع‏)‏، يعني‏:‏ ليس له سمع، لكن له مسموع‏.‏

وجاءت طائفة ثانية، قالوا‏:‏ هذه الأوصاف لمخلوقاته، وليست له، أما هو، فلا يثبت له صفة‏.‏

3- وقسم قالوا‏:‏ يثبت له الأسماء دون الصفات، وهؤلاء هم المعتزلة أثبتوا أسماء الله، قالوا‏:‏ إن الله سميع بصير قدير عليم حكيم‏.‏‏.‏‏.‏ لكن قدير بل قدرة، سميع بلا سمع بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة‏.‏

4- وقسم رابع قالوا‏:‏ نثبت له الأسماء حقيقة، ونثبت له صفات معينة دل عليها لعقل وننكر الباقي، نثبت له سبع صفات فقط والباقي ننكره تحريفاً لا تكذيباً، لأنهم لو أنكروه تكذيباً، كفروا، لكن ينكرونه تحريفاً وهو ما يدعون أنه ‏"‏تأويل‏"‏‏.‏

الصفات السبع هي مجموعة في قوله‏:‏

له الحياة والكلام والبصر ** سمع إرادة وعلم واقتدر

فهذه الصفات نثبتها لأن العقل دل عليها وبقية الصفات ما دل عليها العقل، فنثبت ما دل عليه العقل، وننكر ما لم يدل عليه العقل وهؤلاء هم الأشاعرة، آمنوا بالبعض، وأنكروا البعض‏.‏

فهذه أقسام التعطيل في الأسماء والصفات وكلها متفرعة من بدعة الجهم، ‏(‏ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة‏)‏ (7).‏

فالحاصل أنكم أيها الإخوة لو طالعتم في كتب القوم التي تعتني بجمع أقاويل الناس في هذا الأمر، لرأيتم العجب العجاب، الذي تقولون‏:‏ كيف يتفوه عاقل ـ فضلاً عن مؤمن ـ بمثل هذا الكلام‏؟‏‏!‏ ولكن من لم يجعل الله له نوراً، فما له من نور‏!‏ الذي أعمى الله بصيرته كالذي أعمى الله بصره، فكما أن أعمى البصر لو وقف أمام الشمس التي تكسر نور البصر لم يرها، فكذلك من أعمى الله بصيرته لو وقف أمام أنوار الحق ما رآها والعياذ بالله‏.‏

ولهذا ينبغي لنا دائماً أن نسأل الله تعالى الثبات على الأمر، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا لأن الأمر خطير، والشيطان يدخل على ابن آدم من كل صوب ومن كل وجه ويشككه في عقيدته وفي دينه وفي كتاب الله وسنة رسوله فهذه في الحقيقة البدع التي انتشرت في الأمة الإسلامية‏.‏

ولكن ولله الحمد ما ابتدع أحد بدعة، إلا قيض الله له بمنه وكرمه من يبين هذه البدعة ويدحضها بالحق وهذا من تمام مدلول قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏، هذا من حفظ الله لهذا الذكر، وهذا أيضاً هو مقتضى حكمة الله عز وجل، لأن الله تعالى جعل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، والرسالة لابد أن تبقى في الأرض، وإلا لكان للناس حجة على الله وإذا كانت الرسالة لابد أن تبقى في الأرض، لزم أن يقيض الله عز وجل بمقتضى حكمته عند كل بدعة من يبينها ويكشف عورها، وهذا هو الحاصل، ولهذا أقول لكم دائماً‏:‏ احرصوا على العلم، لأننا في هذا البلد في مستقبل إذا لم نتسلح بالعلم المبني على الكتاب والسنة، فيوشك أن يحل بنا ما حل في غيرنا من البلاد الإسلامية، وهذا البلد الآن هو الذي يركز عليه أعداء الإسلام ويسلطون عليه سهامهم، من أجل أن يضلوا أهلها، فذلك تسلحوا بالعلم، حتى تكونوا على بينة من أمر دينكم وحتى تكونوا مجاهدين بألسنتكم وأقلامكم لأعداء الله سبحانه وتعالى‏.‏

وكل هذه البدع انتشرت بعد الصحابة، فالصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبحثون في هذه الأمور، لأنهم يتلقون الكتاب والسنة على ظاهرهما وعلى ما تقتضيه الفطرة، والفطرة السليمة سليمة، لكن أتى هؤلاء المبتدعون، فابتدعوا في دين الله تعالى ما ابتدعوا، إما لقلة علمهم، أو لقصور فهمهم، أو لسوء قصدهم، فأفسدوا الدنيا بهذه البدع التي ابتدعوها، ولكن كما قلنا‏:‏ إن الله تعالى بحكمته وحمده ومنته وفضله مامن بدعة خرجت إلا قيض الله لها من يدحضها ويبينها‏.‏

ومن جملة الذين بينوا البدع وقاموا قياماً تاماً بدحضها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجمعنا في جنات النعيم‏.‏

هذا الرجل الذي نفع الله بما آتاه من فضله ومن على الأمة بمثله ألف هذه ‏"‏العقيدة‏"‏ كما قلت إجابة لطلب أحد قضاة واسط الذي شكا إليه ما كان الناس عليه من البدع وطلب منه أن يؤلف هذه ‏"‏العقيدة‏"‏ فألفها‏.‏